في البدء، وقبل أن نتوه في سفسطة شرح وتفنيد المصطلح، نعني بالمواطن كل إنسان ينتمي لوطن يستظل بسمائه ويتنفس من هواء السهل أو الجبل والساحل، ولا يعني المصطلح بالضرورة المواطن الإماراتي أو العربي أو العالم ثالثي أو حتى المواطن الكوني إنه كل هؤلاء وقصدت من هذا التفنيد إزالة اللبس وخفض درجة الحساسية التي تصل في بعض الأحيان إلى افتراض الشوفينية والتميز.
لقد تفننت السلطات السياسية العربية ومن قبلها الخلافة العثمانية ومن قبلها الدويلات العربية والإسلامية المتصارعة والمتناحرة على الكراسي، أقول تفننت هذه السلطات في ذبح المواطن الصالح وجرجرته إلى القلاع المظلمة، واقتلاع أظافره وجدع أنفه وصمل أذنيه وفقء عينيه ونشر أصابعه التي تجرأت يوما وكتبت عن السلطان، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتب التراث ويمر بسرعة البرق على تاريخ البرامكة والخوارج والقرامطة، وما خفي من ممارسات خادشة للضمير الإنساني في الحلافتين الأموية والعباسية وما بعدهما. في التاريخ الحديث، وبعد سقوط الخلافة العثمانية، ووقوع جل العالم العربي تحت قبضة الاستعمار الأوروبي وبعد قيام حركات التحرير ووثوب العسكر على كرسي السلطة مورست ضد المواطن الصالح أبشع عمليات الذبح على المستويين الجسدي والعقلي وفتحت السجون وتفتقت ذهنية شهوة التعذيب عن أساليب مرعبة لاستخدامات الخازوق والمطرقة والسندان ومفرمة اللحم البشري والقبور الجماعية وهكذا عاش المواطن الصالح في حالة هلع وخوف حتى بات خائفا من ظله وبات الزوج مقهوراً في سرير الزوجية خوفا من أن تكون الأنثى التي يشاطرها الفراش عنصرا مخابراتيا أو نصيرا حزبيا ولم يعد بالإمكان أن يكون مواطنا صالحا وهو مسكون بخوف يجري في عروقه لا يستلذ لحظات نومه، ولا يمكنه الحصول على لذة غفوة، تحت ظل شجرة إذ أن ظل رجل الأمن كان قادراً على أن يحرمه لذة العيش السعيد، وهكذا بين الخوف والخوف كان الخوف يتربص به في كل زاوية, وهنا يجب الاعتراف بأن بعض الأنظمة قد نجحت بامتياز في قهر المواطن الصالح وتحويله لجرذ تجارب مرتعب، تصطك أسنانه عند ذكر اسم الرمز، وتبتل ملابسه الداخلية لو مر موكب الرمز من أمام المسجد.
وكلما أمعن الرمز في القهر، كلما زاد تعلق المواطن الصالح به ومارس مع الممارسين لعبة الاستمتاع بالتعذيب في موقف مازوخي مثير للحيرة والدهشة والاستعصاء على أكبر علماء النفس والعارفين بسيكولوجيا الإنسان المقهور.
كلما حفر الرمز مقبرة جماعية، زاد عدد التماثيل التي تجثم على صدر الوطن في الساحات وتقاطعات الطرق وازداد عدد أبيات قصائد المديح للرمز.
لذة الموت حباً في الرمز خلقت مواطناً عربياً مسلوب الإرادة!
كانت مواصفات المواطن الصالح مرتبطة بقدرته على تأليه الرمز والنفخ في المزمار والدق على الطبلة والرقص في حلقات الزار. والمواطن الصالح هو الصامت والساكت والأخرس تأسياً بحكمة (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب). لقد ذبح المواطن العربي الصالح بسيوف الشعارات وهدير الميكرفونات ومات أطفاله بالسل والكوليرا والجدري والجذام والبلهارسيا، بينما كان لقطاء النظام يعالجون في مستشفيات أوروبا وأميركا، ويلعقون البوظة السويسرية، التي تجلبها طائرات خاصة إلى دول ينصهر في صيفها الصحراوي الجاف الحديد والإسفلت وجماجم الأطفال.
لقد أخرج المواطن الصالح من المعادلة وأودع السجن أو أودع في وطن مُسور بالفقر والجوع أو استخدم وقوداً لمعارك وهمية في محاربة عدو أصبح تقبيل وجنتيه مطلباً عربياً وأصبح الإفصاح عن علاقاته السرية مطلبا إسرائيلياً بعد مطالبة وزير الخارجية الإسرائيلي إخراج العلاقات العربية إلى حيز العلن، والفكرة ترتبط بمرحلة تدجين المواطن العربي الصالح!
إذا كانت فكرة ذبح المواطن العربي الصالح قد نجحت في الإقصاء فإن فكرة صناعة المواطن العربي (التافه) قد اتخذت مسارات مقلقة باستخدام ثورة المعلومات ووسائل الاتصال الجماهيرية وخاصة البث الفضائي متمثلا في غابة من الفضائيات أو الفضائحيات العربية والمجلات التي تدعي أنها موجهة للأسرة العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر!!
جل ما يمكن مشاهدته في هذه الفضائيات يدخل في سياق صناعة المواطن التافه المفرغ من كل فكرة وفكر, الباحث عن اللذة الحسية واللاهث خلف شبق اللحظات، المتورم بلذة الازدراد، وزيادة محيط الكرش، والزوائد اللحمية الأخرى. مواطن يراد له أن يكون تافها لا يعرف كيف يفتح الكتاب ولا يستمع لقول أثير أو مثير. مواطن يبحث عن وجبة سريعة وعلاقة سريعة وحب وتواصل مثير للرغبة. مواطن علاقته بالآخر علاقة الرقم بكشف الحساب، علاقة يموت فيها الوفاء وتنتحر الشهامة، وتغدو قيمة الإنسان مادية بحتة ويكون اللهاث فيها مبررا والإثراء هدفا ووسيلة لتحقيق الذات.
في الفضائيات العربية المنفلتة من كل ضابط أخلاقي يجري تنفيذ خطة طويلة الأمد لتفريغ هذا المواطن العربي من أجمل إحساساته بالانتماء وإدماجه في حالة ماجنة من الغناء والعهر المصور والاستعراض الحسي.
فض